فصل: هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


 غزوة بيسان

ولما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولى عليها ابنه الظاهر غازي ومعه الأمير سيف الدين تاوكج كافلاً له لصغره وهو أكبر الأمراء الأسدية‏.‏ وسار إلى دمشق فتجهز للغزو وجمع عساكر الشام والجزيرة وديار بكر وقصد بلاد الإفرنج فعبر الأردن منتصف سبع وسبعين وأجفل أهل تلك الأعمال أمامه فقصد بيسان وخربها وأحرقها وأغار على نواحيها واجتمع الإفرنج له‏.‏ فلما رأوه خاموا عن لقائه واستندوا إلى جبل وخندقوا عليهم وأقام يحاصرهم خمسة أيام ويستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم وأغاروا على تلك النواحي وامتلأت أيديهم بالغنائم وعادوا إلى بلادهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده‏.‏ غزو الكرك وولاية العادل على حلب ولما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك وسار في العساكر واستدعى أخاه العادل أبا بكر بن أيوب من مصر وهو نائبها ليلحق به على الكرك وكان قد سأله في ولاية حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك وأمره أن يجيء بأهله وماله فوافاه على الكرك وحاصروه أياماً وملكوا أرباضه ونصبوا عليها المجانيق ولم يكن بالغ في الاستعداد لحصاره لظنه أن الإفرنج يدافعون عنه فأفرج عنه منتصف شعبان وبعث تقي الدين ابن أخيه شاه على نيابة مصر مكان أخيه العادل واستصحب العادل معه إلى دمشق فولاه مدينة حلب ومدينة منبج وما إليها وبعثه بذلك في شهر رمضان من السنة‏.‏ واستدعى ولده الظاهر غازي من حلب إلى دمشق‏.‏ ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين لحصار الكرك بعد أن جمع العساكر واستدعى نور الدين صاحب كيفا وعساكر مصر واستعد لحصاره ونصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون وبقي الحصن وراء خندق بينه وبين الربض عمقه ستون ذراعاً‏.‏ وراموا طمه فنضحوهم بالسهام ورموهم بالحجارة فأمر برفع السقف ليمشي المقاتلة تحتها إلى الخندق‏.‏ وأرسل أهل الحصن إلى ملكهم يستمدونه ويخبرونه بما نزل بهم فاجتمع الإفرنج وأوعبوا وساروا إليهم فرحل صلاح الدين للقائهم حتى انتهى إلى حزونة الأرض فأقام ينتظر خروجهم إلى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم فراسخ ومروا إلى الكرك‏.‏ وعلم صلاح الدين أن الكرك قد امتنع بهؤلاء فتركه وسار إلى نابلس فخربها وحرقها وسار إلى سنطية وبها مشهد زكرياء عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين ورحل إلى جينين فنهبها وخربها‏.‏ وسار إلى دمشق بعد أن بث السرايا في كل ناحية ونهب كل ما مر به وامتلأت الأيدي من الغنائم وعاد إلى دمشق مظفراً والله تعالى أعلم‏.‏ حصار صلاح الدين الموصل ثم سار صلاح الدين من دمشق إلى الجزيرة في ذي القعدة من سنة ثمان وعبر الفرات‏.‏ وكان مظفر الدين كوكبري علي كجك يستحثه للمسير إلى الموصل في كل وقت وربما وعده بخمسين ألف دينار إذا وصل‏.‏ فلما وصل إلى حران لم يف له فقبض عليه ثم خشي معيرة أهل الجزيرة فأطلقه وأعاد عليهم حران والرها‏.‏ وسار في ربيع الأول ولقيه نور الدين صاحب كيفا ومعز الدين سنجار شاه صاحب جزيرة ابن عمر وقد انحرف عن عمه عز الدين صاحب الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبه‏.‏ وساروا كلهم مع صلاح الدين إلى الموصل وانتهوا إلى مدينة بلد فلقيه هنالك أم عز الدين وابنة عمه نور الدين وجماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظناً بأنه لا يردهن وسيما بنت نور الدين‏.‏ واستشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهن وساروا إلى الموصل وقاتلوها واستمات أهلها وامتعضوا لرد النساء فامتنعت عليهم وعاد على أصحابه باللوم في إشارتهم‏.‏ وجاء زين الدين يوسف صاحب إربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فأنزلهما بالجانب الشرقي‏.‏ وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع عليه الأكراد الهكارية إلى أن عاد صلاح الدين عن الموصل وبلغ عز الدين أن نائبه بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها وانحرف عنه إلى الاقتداء برأي مجاهد الدين وتصدر عنه‏.‏ ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها وأنه يستعين بها على أموره‏.‏ ثم جاءته كتب أهلها يستدعونه فسار عن الموصل إليها وكان أهل خلاط إنما كاتبوه مكرا لأن شمس الدين البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان قصده تملكهم بعد أن كان زوج ابنته من شاهرين على كبره وجعل ذلك ذريعة إلى ملك خلاط‏.‏ فلما سار إليهم كاتبوا صلاح الدين ودافعوا كلا منهما بالآخر فسار صلاح الدين وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين صاحب إربك وغيرهما‏.‏ وتقدموا إلى خلاط وتقدم صاحب أذربيجان فنزل قريباً من خلاط‏.‏ وترددت رسل أهل خلاط بينه وبين البهلوان ثم خطبوا للبهلوان والله تعالى ينصر من يشاء من عباده‏.‏

  استيلاء صلاح الدين على ميافارقين

ولما خطب أهل خلاط للبهلوان وصلاح الدين على ميافارقين وكانت لقطب الدين صاحب ماردين فتوفي وملك ابنه طفلاً صغيراً بعده ورد أمرها إلى شاهرين صاحب خلاط‏.‏ وأنزل بها عسكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة شاهرين وحاصرها من أول جمادى سنة إحدى وثمانين وعلى أجنادها الأمير أسد الدين برنيقش فأحسن الدفاع وكان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بناتها منه وهي أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأن برنيقش قد مال إليها في تسليم البلد ونحن ندعي حق أخيك نور الدين فأزوج بناتك من أبنائي وتكون البلد لنا‏.‏ ووضع على برنيقش من أخبره بأن الخاتون مالت إلى صلاح الدين وأن أهل خلاط كاتبوه‏.‏ وكان خبر أهل خلاط صحيحاً فسقط في يده وبعث في التسليم على شروط اشترطها من إقطاع ومال‏.‏ وسلم البلد فملكها صلاح الدين وعقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون‏.‏ وأنزلها وبناتها بقلعة هقناج وعاد إلى الموصل ومر بنصيبين وانتهى إلى كفر أرمان وأعتزم على أن يشتو به ويقطع جميع ضياع الموصل ويجبي أعمالها ويكتسح غلاتها‏.‏ وجنح مجاهد الدين إلى مصالحته وترددت الرسل في ذلك على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الغرابلي وما وراء الزاب من الأعمال‏.‏ ثم طرقه المرض فعاد إلى حران وأدركه الرسل بالإجابة إلى ما طلب فانعقد هنالك وتحالفوا وتسلم البلاد وطال مرضه بحران وكان عنده أخوه العادل وبيده حلب وبها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين‏.‏ واشتد به المرض فقسم البلاد بين أولاده وأوصى أخاه العادل على الجميع‏.‏ وعاد إلى دمشق في محرم سنة اثنتين ثمانين وكان عنده بحران ناصر الدين محمد بن عمه شيركوه ومن اقطاعه حمص والرحبة فعاد قبله إلى حمص ومر بحلب وصانع جماعة من أمرائها على أن يقوموا بدعوته إن حدث بصلاح الدين أمر‏.‏ وبلغ إلى حمص فبعث إلى أهل دمشق بمثل ذلك وأفاق صلاح الدين من مرضه ومات ناصر الدين ليلة الأضحى ويقال دس عليه من سمه وورث أعماله ابنه شيركوه وهو ابن اثنتي عشرة سنة والله تعالى أعلم‏.‏

 قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده وأخيه

كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل وابنه الأكبر الأفضل علي بمصر في كفالة تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بعثه إليها عندما استدعى العادل منها كما مر‏.‏ فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحداً من ولده استقلالاً وسعى إليه بذلك بعض بطانته‏.‏ فبعث ابنه عثمان العزيز إلى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب‏.‏ ثم أقطع العادل حران والرها وميافارقين من بلاد الجزيرة وترك عثمان ابنه بمصر‏.‏ ثم بعث عن ابنه الأفضل وتقي الدين ابن أخيه فامتنع تقي الدين من الحضور واعتزم على المسير إلى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له بطرابلس والجريد من إفريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه‏.‏ ولما وصل أقطعه حماة ومنبج والمعرة وكفر طاب وجبل جوز وسائر أعمالها‏.‏ وقيل إن تقي الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته تحرك في طلب الأمر لنفسه وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكاري وكان مطاعاً فيهم وأمره بإخراج تقي الدين من مصر والمقام بها فسار ودخلها على حين غفلة‏.‏ وأمر تقي الدين بالخروج فأقام خارج البلد وتجهز للمغرب فراسله اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره والإغارة على عكا كان القمص صاحب طرابلس وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوج بالقومصة صاحبة طبرية وانتقل إليها فأقام عندها ومات ملك الإفرنج بالشام وكان مجذوماً كما مر وأوصى بالملك لابن أخيه صغيراً فكفله هذا القمص وقام بتدبير ملكه لعظمه فيهم وطمع أن تكون كفالته ذريعة إلى الملك‏.‏ ثم مات الصغير فانتقل الملك إلى أبيه ويئس القمص عندها مما كان يحدث به نفسه‏.‏ ثم إن الملكة تزوجت ابن غتم من الإفرنج القادمين من المغرب وتوجته وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاسبتارية والداوية والبارونية وأشهدتهم خروجها له عن الملك‏.‏ ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبي فأنف وغضب وجاهر بالشقاق لهم‏.‏ وراسل صلاح الدين وسار إلى ولايته وخفف له على مصره من أهل ملته‏.‏ وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازداد غبطة بمظاهرته‏.‏ وكان ذلك ذريعة لفتح بلادهم وارتجاع القدس منهم‏.‏ وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الإفرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين وذلك كله سنة اثنتين وثمانين‏.‏ وكان البرنس أرناط صاحب الكرك من أعظم الإفرنج مكراً وأشدهم ضرراً‏.‏ وكان صلاح الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الأمتين‏.‏ ثم مرت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم وبعث إليه صلاح الدين فأصر على غدرته فنذر أنه يقتله إن ظفر به واستنفر الناس للجهاد من سائر الأعمال من الموصل والجزيرة وإربل ومصر والشام‏.‏ وخرج من دمشق في محرم سنة ثلاث وثمانين وانتهى إلى رأس الماء‏.‏ وبلغه أن البرنس أرناط صاحب الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين وغيره فترك من العساكر مع ابنه الأفضل علي وسار إلى بصرى‏.‏ وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج ووصل الحاج سالمين‏.‏ وسار صلاح الدين إلى الكرك وبث السرايا في أعمالها وأعمال الشوبك فاكتسحوهما‏.‏ والبرنس محصور بالكرك وقد عجز الإفرنج عن إمداده لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين‏.‏ ثم بعث صلاح الدين إلى ابنه الأفضل فأمره بإرسال بعث إلى عكا ليكتسحوا نواحيها فبعث مظفر الدين كوكبري صاحب حران والرها وقايماز النجمي وداروم الياروقي وساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاسبتارية فبرزوا إليهم‏.‏ وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين وانهزم الإفرنج وقتل مقدمهم وامتلأت أيدي المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين‏.‏ ومروا بطبرية وبها القمص فلم يهجهم لما تقدم بينه وبين صلاح الدين من الولاية جمظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد والله تعالى أعلم‏.‏

 هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا

ولما انهزم الفداوية والاسبتارية بصفورية ومر المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الذي مع ابنه ومر بالكرك واعتزم على غزو بلاد الإفرنج فاعترض عساكره وبلغه أن القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه‏.‏ وأن البطرك والقسيس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته مسلمين ومرور عساكرهم به بأسرى النصارى وغنائمهم‏.‏ ولم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوة والإستبارية أعيان الملة وتهددوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه واعتذر فقبلوا عذره وخلص لكفره وطواغيته فجددوا الحلف والاجتماع‏.‏ وساروا من عكا إلى صفورية وبلغ الخبر إلى صلاح الدين‏.‏ وشاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء وشن الغارات عليهم حتى يضعفوا‏.‏ ومنهم من أشار باللقاء لنزول عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين واستعجل لقاءهم‏.‏ ثم رحل من الأقحوانه أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية وتقدم إلى معسكر الإفرنج فلم يفرقوا خيامهم‏.‏ فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها‏.‏ وامتنع أهلها بالقلعة ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج فضج القمص وعمد إلى الصلح‏.‏ وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين فنكر عليه البرنس صاحب الكرك واتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين‏.‏ واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر وعاد صلاح الدين إلى معسكره وبعدت المياه من حوالي الإفرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم‏.‏ واشتدت الحرب وصلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين‏.‏ ثم حمل القمص على ناحية تقي الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف وخلص من تلك الناحية إلى منجاته وأختين مصاف الإفرنج وتابعوا الحملات‏.‏ وكان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم ناراً فجهدهم لفحها ومات جلهم من العطش فوهنوا وأحاط بهم المسلمون من كل ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا من خيمة الملك فقط والسيف يجول فيهم مجاله حتى في أكثرهم ولم يبق إلا نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم‏.‏ والمسلمون يكرون عليهم مرة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل وابن هنفري ومقدم الفداوية وجماعة من الفداوية والاستبارية‏.‏ ولم يصاحبوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين والأربعمائة بمثل هذه الوقعة‏.‏ ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء الأسرى فقرع الملك ووبخه بعد أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصاً على الوفاء بنذره بعد أن عرفه بغدرته وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين وحبس الباقين‏.‏ وأما القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ثم مات لأيام قلائل أسفاً‏.‏ ولما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك وأعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها‏.‏ وجمع أسرى الفداوية والاسبتارية بعد أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين ديناراً مصرية لكل واحد وقتلهم أجمعين‏.‏ قال ابن الأثير ولقد اجتزت بمكان الواقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أجحفتها السيول ومزقتها السباع‏.‏ ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها واعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل فحملوا ما أقلته رحالهم ودخلها صلاح الدين غرة جمادى سنة ثلاث وثمانين‏.‏ وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخلوهم فكانت أول جمعة أقيمت بساحل الشام بعد استيلاء الإفرنج عليه‏.‏ وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل وجميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع‏.‏ ووهب للفقيه عيسى الهكاري كثيراً مما عجز الإفرنج عن حمله وقسم الباقي على أصحابه‏.‏ ثم قسم الأفضل ما بقي في أصحابه بعد مسير صلاح الدين‏.‏ ثم أقام صلاح الدين أياماً حتى أصلح أحوالها ورحل عنها والله تعالى أعلم‏.‏ فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره بالمسير إلى جهات الإفرنج من جهات مصر فنازل حصن مجدل وفتحه وغنم ما فيه ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه إلى قيساريه وحيفا وأسطورية وبعلبك وشقيف وغيرها في نواحي عكا فملكوها واستباحوها وامتلأت أيديهم من غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سسطية مدينة الأسباط وبها قبر زكريا عليه السلام‏.‏ ثم سار إلى مدينة نابلس فملكها واعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرهم على أموالهم‏.‏ وبعث تقي الدين عمر ابن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل إليها بصرخد فملكها بعد قتال‏.‏ وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار وملكها آخر جمادى الأولى من السنة‏.‏ ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من أحد جوانبها فتوهموا أن المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك فلم يستقروا ولا قدروا على تسكين الهيعة كثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه‏.‏ وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها‏.‏ وكان صاحب جبيل أسيراً بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أن يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت وسلم الحصن وأطلقه وكان من أعيان الإفرنج وأولي الرأي منهم والله تعالى أعلم‏.‏

 وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها

كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة لحق بمدينة صور وأقام بها يريد حمايتها ومنعها من المسلمين فلما ملك صلاح الدين نسيس وصيدا وبيروت ضعف عزمه عن ذلك ولحق ببلده طرابلس‏.‏ وبقيت صيدا وصور بدون حامية‏.‏ وجاء المركيش من تجار الإفرنج من المغرب في كثرة وقوة فأرسى بعكا ولم يشعر بفتحها‏.‏ وخرج إليه الرائد فأخبره بمكان الأفضل بن صلاح الدين فيها وأن صور وعسقلان باقية للإفرنج فلم يطق الإقلاع إليهما لركود الريح فشغلهم بطلب الأمان ليدخل المرسى‏.‏ ثم طابت ريحه وجرت به إلى صور وأمر الأفضل بخروج الشواني في طلبه فلم يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطاً كثيرة من فل الحصون المفتتحة فجاؤوا إليه وضمن لهم حفظ المدينة وبذل أمواله في الأنفاق عليها على أن تكون هي وأعمالها له دون غيره وأستحلفهم على ذلك‏.‏ ثم قام بتدبير أحوالها وشرع في تحصينها فحفر الخنادق ورم الأسوار واستبد بها والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 فتح عسقلان وما جاورها

ولما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وتلك الحصون صرف عمته إلى عسقلان والقدس لعظم شأن القدس ولأن عسقلان مقطع بين الشام ومصر فسار عن بيروت إلى عسقلان ولحق به أخوه العادل في عساكر مصر‏.‏ ونازلها أوائل جمادى الأخيرة‏.‏ استدعى ملك الإفرنج ومقدم الراية وكانا أسيرين بدمشق فأحضرهما أمرهما بالإذن للإفرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك أساؤوا الرد عليهما فاشتد في قتالهم ونصب المجانيق عليهم وملكهم يردد الرسائل إليهم في التسليم عساه ينطلق وبأخذ بالثأر من المسلمين فلم يجيبوه‏.‏ ثم جهدهم الحصار وبعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط اشترطوها كان أهمها عندهم أن يمنعهم من المهرانية بما قتلوا أميرهم في الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه‏.‏ وملك المدينة منتصف السنة لأربعة عشر يوماً من حصارها وخرجوا بأهليهم وأموالهم وأولادهم إلى القدس ثم بعث السرايا في تلك الأعمال ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومدن الخليل وبيت لحم والنطرون وكل ما كمان للفداوية‏.‏ وكان أيام حصار عسقلان قد بعث عن أسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب وأقام يغير على مرسى عسقلان والقدس ويغنم جميع ما يقصده من النواحي والله سبحانه وتعالى يؤيد من يشاء بنصره‏.‏

 فتح القدس

ولما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس وبها البطرك الأعظم وبليان بن نيزران صاحب الرملة وربيسة قريبة الملك ومن نجا من زعمائهم من حطين وأهل البلد المفتتحة عليهم وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين‏.‏ وبعد الصريخ وأكثروا الاستعداد ونصبوا المجانيق من داخله وتقدم إليه أمير من المسلمين فخرج إليه الإفرنج فأوقعوا به وقتلوه في جماعة ممن معه وفجع المسلمون بقتله‏.‏ وساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب وهالهم كثرة حاميته وطاف بهم صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوأ عليه للقتال حتى اختار جهة الشمال نحو باب العمود وكنيسة صهيون فتحول إليه‏.‏ ونصب المجانيق عليها واشتد القتال وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق‏.‏ وكان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران وأبوه صاحب قلعة جعبر فأسف المسلمون لقتله وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم بالبلد وملكوا عليهم الخندق ونقبوا السور فوهن الإفرنج واستأمنوا لصلاح الدين فأبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أول الأمر سنة إحدى وسبعين وأربعمائة فأستأمن له بالباب ابن نيزران صاحب الرملة وخرج إليه وشافهه بالاستئمان‏.‏ واستعطفه فأصر على الامتناع فتهدده بالاستماتة وقتل النساء والأبناء وحرق الأمتعة وتخريب المشاعر المعظمة واستلحام أسرى المسلمين وكانوا خمسة آلاف أسير واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة من الظهر وغيره‏.‏ فحينئذ استشار صلاح الدين أصحابه فجنحوا إلى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينارين للولد صبي أو صبية وعلى أجل أربعين يوماً دينار‏.‏ وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره وكان يوماً مشهوداً‏.‏ ورتب على القدس الأمناء لقبض هذا المال ولم يبن الأمر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء وعجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان فإن الإفرنج أرزوا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم‏.‏ ومن الدليل على مقاربة هذا العدد أن بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينار على ثمانية عشر ألفاً وعجز منهم ستة عشر ألفاً وأخرج جميع الأمراء خلقاً لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة‏.‏ واستوهب آخرون جموعاً منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم‏.‏ وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم‏.‏ وكذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها وكان محبوساً بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها ولم يحصل من القطيعة على خراج‏.‏ وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له‏.‏ وجاءته امرأة البرنس صاحب البهرك الذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها وكان أسيراً فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب‏.‏ وتسلق جماعة من المسلمين إليه واقتلعوه وارتجت الأرض بالتكبير والعويل‏.‏ ولما خلا القدس من العدو أمر صلاح الدين برد مشاعره‏.‏ إلى أوضاعها القديمة وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأول‏.‏ وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار فطهرا‏.‏ ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى في قبة الصخرة وخطب محيي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين وأتى في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظمة الإسلام اقشعرت لها الجلود وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالاً‏.‏ ثم أقام صلاح الدين بالمسجد الصلوات الخمس إماماً وخطيباً وأمر بعمل المنبر له فتحدثوا عنده بأن نور الدين محمود اتخذ له منبراً منذ عشرين سنة وجمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الأقصى‏.‏ ثم أمره بعمارة المسجد واقتلاع الرخام الذي فوف الصخرة لأن القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتاً ويبعونها بالذهب وزناً بوزن‏.‏ فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في الكنائس فخشي ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه‏.‏ ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القراء ووفر لهم الجرايات‏.‏ وتقدم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكارمه رحمه الله تعالى‏.‏ وارتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا والله تعالى أعلم‏.‏ حصار صور ثم صفد وكوكب والكرك لما فتح صلاح الدين القدس أقام بظاهره إلى آخر شعبان من السنة حتى فرغ من جميع أشغاله ثم رحل إلى مدينة صور وقد اجتمع فيها من الإفرنج عوالم وقد نزل بها المركيش وضبطها‏.‏ ولما انتهى صلاح الدين إلى عكا أقام بها أياماً فبالغ المركيش في الاستعداد وتعميق الخنادق وإصلاح الأسوار وكان البحر يحيط بها من ثلاث جهاتها فوصل جانب اليمين بالشمال وصارت كالجزيرة‏.‏ وسار إليها فنزل عليها لتسع بقين من رمضان على تل يشرف منه على مكان القتال وجعل القتال على أقيال عسكره نوباً بين ابنه الأفضل وابنه الظاهر وأخيه العادل وابن أخيه تقي الدين ونصب عليها المجانيق والعرادات‏.‏ وكان الإفرنج يركبون في الشواني و الحراقات ويأتون المسلمين من ورائهم فيرمون عليهم من البحر ويقاتلونهم ويمنعونهم من الدنو إلى السور فبعث صلاح الدين عن أسطول مصر من مرسى عكا فجاء ودافع الإفرنج وتمكن المسلمون من قتال الأسوار وحاصروها براً وبحراً‏.‏ ثم كبس أسطول الإفرنج خمسة من أساطيل المسلمين ففتكوا بهم ورد صلاح الدين الباقي إلى بيروت لقلتها فاتبعها أساطيل الإفرنج فلما أرهقوهم في الطلب القوا بأنفسهم إلى الساحل وتركوها فحكمها صلاح الدين ونقضها وجد في حصار صور فلم يفد وامتنعت عليه لما كان فيها من كثرة الإفرنج الذين أمنهم بعكا وعسقلان والقدس فنزلوا إليها بأموالهم وأمدوا صاحبها واستدعوها الإفرنج وراء البحر فوعدوهم بالنصر وأقاموا في انتظارهم‏.‏ ولما رأى صلاح الدين امتناعها شاور أصحابه في الرحيل فترددوا وتخاذلوا في القتال فرحل آخر شوال إلى عكا وأذن للعساكر في المشي إلى أوطانهم إلى فصل الربيع‏.‏ وعادت عساكر الشرق والشام ومصر وأقام بقلعة عكا في خواصه ورد أحكام البلد إلى خرديك من أمراء نور الدين‏.‏ وكان صلاح الدين عندما اشتغل بحصار عسقلان بعث عسكراً لحصار صور فشددوا حصارها وقطعوا عنها الميرة وبعثوا إلى صلاح الدين وهو يحاصر صور فاستأمنوا له ونزلوا عنها فملكها‏.‏ وكان أيضاً صلاح الدين لما سار إلى عسقلان جهز عسكراً لحصار قلعة كوكب يحرسون السابلة في طريقها من الإفرنج الذين فيها وهي مطلة على الأردن وهي للإستبارية‏.‏ وجهز عسكراً لحصار صفد وهي للفداوية مطلة على طبرية‏.‏ ولجأ إلى هذين الحصنين من سلم من وقعة حطين وامتنعوا بهما‏.‏ فلما جهز العساكر إليهما صلحت الطريق وارتفع منها الفساد‏.‏ فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الموكلون بالحصار على قلعة كوكب وكانت ليلة شاتية باردة فكبسهم الإفرنج ونهبوا ما عندهم من طعام وسلاح وعادوا إلى قلعتهم‏.‏ وبلغ ذلك صلاح الدين وهو يعتزم على الرحيل عن صور فشحذ من عزيمته‏.‏ ثم جهز عسكراً إلى صور مع الأمير قايماز النجي وارتحل إلى عكا فلما انصرم فصل الشتاء سار من عكا في محرم سنة أربع وثمانين إلى قلعة كوكب فحاصرها وامتنعت عليه ولم يكن بقي في البلاد الساحلية من عكا إلى الجنوب غيرها وغير صفد والكرك‏.‏ فلما امتنعت عليه جهز العساكر لحصارها مع قايماز النجمي ورحل عنها في ربيع الأول إلى دمشق ووافته رسل أرسلان وفرح الناس بقدومه والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

 غزو صلاح الدين إلى سواحل الشام وما فتحه من حصونها

وصلحه آخراً مع صاحب إنطاكية لما رجع صلاح الدين من فتح القدس وحاصر صور وصفد وكوكب عاد إلى دمشق ثم تجهز للغزو إلى سواحل الشام وأعمال إنطاكية وسار عن دمشق في ربيع سنة أربع وثمانين فنزل على حمص واستدعى عساكر الجزيرة وملوك الأطراف فاجتمعوا إليه‏.‏ وسار إلى حصن الأكراد فضرب عسكره هنالك ودخل متجرداً إلى القلاع بنواحي إنطاكية فنقض طرفها وأغار على ولايتها إلى طرابلس حتى شفى نفسه من ارتيادها‏.‏ وعاد إلى معسكره فجرت الأرض بالغنائم فأقام عند حصن الأكراد ووفد عليه هنالك منصور بن نبيل صاحب جبلة‏.‏ وكان من يوم استيلاء الإفرنج على جبله عند صاحب إنطاكية حاكماً على جميع المسلمين فيها ومتولياً أمور سمند فلما هبت ريح الإسلام بصلاح الدين وظهوره نزل إليه ليكشف الغماء ودله على عورة جبلة واللاذقية واستحثه لهما فسار أول جمادى ونزل بطرطوس وقد اعتصم الإفرنج منها ببرجين حصينين وأخلوا المدينة فخربوها واستباحوها‏.‏ وكان أحد الحصنين للفداوية وفيه مقدمتهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف وأطلقه عند فتح القدس‏.‏ واستأمن إليه أهل البرج الآخر ونزلوا له عنه فخربه صلاح الدين وألقى حجارته في البحر وامتنع عليه برج الفداوية فسار إلى المرقب وهو للاسبتارية ولا يرم لعلوه وارتفاعه وامتناعه والطريق في الجبل إلى جبلة عليه فهو عن يمين الطريق والبحر عن يساره في مسلك ضيق إنما يمر به الواحد تلو الواحد‏.‏